الخطبة الأولى
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله قد أمرنا بالتوبة إليه، والاستغفار من ذنوبنا، في آيات كثيرة من كتابه الكريم، وسمى ووصف نفسه بالغفار وغافر الذنب وذي المغفرة، وأثنى على المستغفرين ووعدهم بجزيل الثواب، وكل ذلك يدلنا على أهمية الاستغفار، وفضيلته، وحاجتنا إليه. وقد قص الله علينا عن أنبيائه أنهم يستغفرون ربهم، ويتوبون إليه، فذكر عن الأبوين عليهما السلام أنهما قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23]، وذكر لنا عن نوح - عليه السلام – أنه قال: (وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [هود:47]، وقال أيضا: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [نوح:28]، وذكر عن موسى – عليه السلام – أنه قال: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص:16]، وذكر عن نبيه داود – عليه السلام – أنه قال: (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ) [ص:24]، وذكر عن نبيه سليمان – عليه السلام – أنه قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، وأمر خاتم رسله نبينا محمداً بقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) ، وأمرنا بالاستغفار فقال: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) [فصلت:6]، وفي الحديث القدسي يقول سبحانه: يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم .
عباد الله: وللاستغفار فوائد عظيمة، منها: أنه سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات، كما في الحديث: فاستغفروني أغفر لكم ، وكما قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء:110]. وفي الحديث: قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك .
ومن فوائد الاستغفار: أنه يدفع العقوبة ويدفع العذاب قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).
ومن فوائد الاستغفار: أنه سبب لتفريج الهموم، وجلب الأرزاق والخروج من المضائق ففي سنن أبي داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب .
ومن فوائد الاستغفار: أنه سبب لنزول الغيث والإمداد بالأموال والبنين ونبات الأشجار وتوفر المياه، قال تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) [نوح:10-12]، وقال عن هود عليه السلام أنه قال لقومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) [هود:52].
عباد الله: والاستغفار مشروع في كل وقت، وهناك أوقات وأحوال مخصوصة يكون للاستغفار فيها مزيد فضل، فيستحب الاستغفار بعد الفراغ من أداء العبادات؛ ليكون كفارة لما يقع فيها من خلل أو تقصير، كما شرع بعد الفراغ من الصلوات الخمس، فقد كان النبي إذا سلم من الصلاة المفروضة يستغفر الله ثلاثا؛ لأن العبد عرضة لأن يقع منه نقص في صلاته بسبب غفلة أو سهو.
كما شرع الاستغفار في ختام صلاة الليل، قال تعالى عن المتقين: (كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:17-18]. وقال تعالى: والمستغفرين بالأسحار.
وشرع الاستغفار بعد الإفاضة من عرفة والفراغ من الوقوف بها قال تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:199].
وشرع الاستغفار في ختم المجالس حيث أمر النبي عندما يقوم الإنسان من المجلس أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك ، فإن كان مجلس خير كان كالطابع عليه، وإن كان غير ذلك كان كفارة له.
وشرع الاستغفار في ختام العمر، وفي حالة الكبر، فقد قال الله تعالى لنبيه عند اقتراب أجله: بسم الله الرحمن الرحيم: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) [سورة النصر]. فقد جعل الله فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجا، علامة على قرب نهاية أجل النبي ، وأمره عند ذلك بالاستغفار، فينبغي لكم أيها المسلمون ملازمة الاستغفار في كل وقت، والإكثار منه في هذه الأوقات والأحوال المذكورة، لتحوزوا هذه الفضائل، وتنالوا هذه الخيرات، فقد كان نبينا يكثر من الاستغفار.
فقد روى الإمام أحمد وأصحاب السنن من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: إننا لنعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك التواب الرحيم ، وفي سنن ابن ماجه بسند جيد عن النبي أنه قال: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا .
عباد الله: والاستغفار معناه طلب المغفرة من الله بمحو الذنوب، وستر العيوب، ولا بد أن يصحبه إقلاع عن الذنوب والمعاصي. وأما الذي يقول: أستغفر الله بلسانه، وهو مقيم على المعاصي بأفعاله فهو كذاب لا ينفعه الاستغفار. قال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين، وقال آخر: استغفارنا ذنب يحتاج إلى استغفار ! يعني: أن من استغفر ولم يترك المعصية، فاستغفاره ذنب يحتاج إلى استغفار. فلننظر في حقيقة استغفارنا، لئلا نكون من الكذابين الذين يستغفرون بألسنتهم، وهم مقيمون على معاصيهم.
عباد الله: هناك ألفاظ للاستغفار وردت عن النبي ينبغي للمسلم أن يقولها، منها: قوله: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم ، وقوله: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ، وقال: سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة. ومن قالها من الليل وهو موقن به فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة رواه البخاري.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران:133-136].