بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الله تعالى: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ).
(لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ) أي: أهل النار المعذبون فيها، (وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) المنعمون فيها، لا يستوي النعيم والعذاب، لا تستوي الجنة والنار هذا شيء معروف، فالفطر والعقول عند المسلمين وعند الكفار وعند كل عاقل أن لا تستوي الجنة والنار؛ ولكن الفرق أن المؤمنين في هذه الدنيا تركوا ما حرم الله عز وجل ابتغاء مرضاته وجنته وتركوا ما أباح الله في أيام الصيام حيث أمرهم الله بتركه، فقدموا محبة الله ومحبة جنته على محبة أنفسهم للأشياء، قدموا ما يحبه الله على ما تحبه أنفسهم، ومن هؤلاء الصائمون الذين صاموا لله عز وجل في هذه الدنيا، والصيام على قسمين:
القسم الأول: صيام دائم: وهو الصيام عما حرام الله من الأقوال والأفعال وسائر المعاصي فهذا صيام دائم.
القسم الثاني: وصيام عما أحل الله وهذا مؤقت، صيام رمضان، وصيام التطوع ولا يحرمون أنفسهم دائماً؛ بل يصومون ويكثرون من الصيام ويفطرون ويتناولون ما أحل الله لهم.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقال لا يفطر ويفطر حتى يقال لا يصوم يعني: يكثر من الصيام ويكثر أيضا من الإفطار ولا يحرم نفسه، وكذلك أهل الإيمان يصومون عما أحل الله في وقت الصيام ويفطرون بما أحل الله وقت الإفطار، ولا لوم عليهم في ذلك، ولذلك لا يجوز الصيام دائماً وأبداً بحيث لا يفطر الإنسان قال صلى الله عليه وسلم: خير الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما يعني: نصف الدهر صائم ونصفه مفطر هذا خير الصيام هذا عما أحل الله، أما ما حرم الله فإنه يصام عنه دائماً، وأما أهل الشقاء ـ والعياذ بالله ـ فهم على العكس لا يصمون عما حرم الله؛ بل يتناولون الشهوات والمحرمات ويغفلون عن طاعة الله، ويتبعون ما تشتهيه أنفسهم فهم في فطرهم دائم في هذه الدنيا كل ما يردونه وتشتهيه أنفسهم تناولوه ولو كان مما حرام الله عليهم لا يقتصرون على الحلال وإنما يأكلون الحرام ويتمتعون بالحرام يتلذذون به ليس عندهم صيام في هذه الدنيا لا عما أحل الله ولا عما حرام الله هؤلاء هم أصحاب النار: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ) يعني: الناجون، الفوز والنجاة (هُمْ الْفَائِزُونَ) يوم القيامة، وأما أصحاب النار فهم الهالكون، الهلاك الذي لا نجاة منه نسأل الله العافية.
والسبب في هذا هو العمل: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
(خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ) يعني: قيامه بين يدي الله، (وَنَهَى النَّفْسَ) في هذه الدنيا عن الهوى عن إتباع الهوى وما تشتهيه: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، وأما العكس وهم الذين لا يخفون مقام الله ولا ينهون أنفسهم عما حرم الله: (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) يعني: المستقر، فرق بين هذا وهذا.
فالمسلم يصوم عما حرم الله دائماً لا إفطار في هذه الدنيا، وأما ما أباح الله فيصوم عنه في الأوقات التي شرع الله الصيام فيها، ويفطر في الأوقات التي أحل الله الإفطار فيها هؤلاء هم الذين يقال لهم يوم القيامة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) يفتح لهم باب من أبواب الجنة خاصاً بهم يقال له الريان، باب الريان في الجنة هذا للصائمين لا يدخل منه غيرهم فإذا دخلوا أغلق ويقال لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا) من أين؟ (كُلُوا وَاشْرَبُوا) من الجنة (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) لا مكدر فيه ولا غصص ولا نغص، السبب؟ (بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) بما قدمتم من الأعمال الصالحة أيام الدنيا هكذا، وأما أولئك ـ والعياذ بالله ـ فيأخذون إلى النار في حرها وسمومها وزقومها وغسقها تقطع لهم ثياب من نار ـ والعياذ بالله ـ، يشربون من الحميم (وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) تتقطع أمعاءهم ثم تعود لأجل يبقى العذاب عليهم تتقطع من شدة العذاب ومن شدة الحميم، ثم تعود كما كانت:(كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً) فهذا هو الفرق، وهذا معنى قوله: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ)، لا يستوون في الأعمال في الدنيا ولا يستوون في الجزاء في الآخرة: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ).
فإذاً الصيام على قسمين:
القسم الأول: صيام عما أحل الله من الطعام والشراب والمباحات وهذا إنما يكون في الأوقات التي شرع الله الصيام فيها إما وجوباً وإما استحباباً.
القسم الثاني: وصيام عما حرم الله من كل الذنوب والمعاصي وهذا صيام دائم إلى يوم القيامة ليس له فطر.
فالمؤمن هو الذي يصوم هذا الصيام يصوم عما حرم الله دائماً ويصوم عما أحل الله في أوقات محددة ما يحرم من الشهوات المباحة وإنما في أوقات محددة يؤثر طاعة الله ورضا الله على طاعة نفسه وهوى نفسه (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، وأما الذي أطاع نفسه بشهواتها المحرمة وأعطاها ما تشتهي في هذه الدنيا ولم يصوم عما حرم الله (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)، وفرق بين الجنة وبين الجحيم، الجحيم: هي النار المتوقدة بالجمر الذي لا يطفئ هذا هو الجحيم، والجنة: هي البساتين الخضر والأنهار والظل وغير ذلك من النعيم، هل يستوي هذا وهذا؟ أبد كما لا يستوي الإيمان والكفر، وكما لا تستوي الطاعة والمعصية.
فالأمر واضح والطريق بيَّنَّ؛ ولكن التوفيق من الله سبحانه وتعالى وهو بسبب من العبد، العبد إذا أثر طاعة ربه وأحب ما يحبه الله ولو كرهت نفسه فهذا هو الذي ينال الكرامة في الآخرة (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ).
فالمؤمن يفكر بعقله، ويميز بعلمه ودينه بين ما أحل الله وما حرم الله وإلا من حيث العموم كلٌ يريد الجنة وكلٌ يخاف من النار ولا يريدها؛ ولكن الفرق في العمل والاستعداد في هذه الدنيا وليست الجنة بالأماني، العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، يريد الجنة ويحبها؛ ولكن لا يعمل لها، يكره النار؛ ولكن يعمل بأعمالها، لماذا؟ لأن نفسه تحب هذه الأشياء، وإن كانت تؤول بهِ إلى النار، فالنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فعلى الإنسان أن يتذكر هذا وأن يؤثر ما يحب الله ولو كانت نفسه تكره: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، الله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
***