متن الدرس
وسألت شيخ الإسلام عن معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "الّلهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ خَطَايَاي بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ".
كيف يطهر الخطايا بذلك؟ وما فائدة التخصيص بذلك؟
وقوله في لفظ آخر "والماء البارد" والحار أبلغ في الإنقاء؟.
فقال: الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفا، فيرتخى القلب وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه، فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه، والماء يغسل الخبث ويطفئ النار، فإن كان باردا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا. هذا معنى كلامه، وهو محتاج إلى مزيد بيان وشرح.
فاعلم أن هاهنا أربعة أمور: أمران حسيان، وأمران معنويان. فالنجاسة التي تزول بالماء هي ومزيلها حسيان، وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار هي ومزيلها معنويان، وصلاح القلب وحياته ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا. فذكر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من كل شطر قسما نبه به على القسم الآخر. فتضمن كلامه الأقسام الأربعة في غاية الاختصار، وحسن البيان. كما في حديث الدعاء بعد الوضوء: "اللّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ". فإنه يتضمن ذكر الأقسام الأربعة.
ومن كمال بيانه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وتحقيقه لما يخبر به، ويأمر به: تمثيله الأمر المطلوب المعنوى بالأمر المحسوس.
وهذا كثير في كلامه، كقوله في حديث على بن أبى طالب:"سَلِ اللهَ الهُدَى وَالسَّدَادَ، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطّرِيقَ، وَبِالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْم".
هذا من أبلغ التعليم والنصح، حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى إلى طريق رضاه وجنته: كونه مسافرا، وقد ضل عن الطريق، ولا يدرى أين يتوجه، فطلع له رجل خبير بالطريق عالم بها، فسأله أن يدله على الطريق، فهكذا شأن طريق الآخرة تمثيلا لها بالطريق المحسوس للمسافر.
وحاجة المسافر إلى الله سبحانه: إلى أن يهديه تلك الطريق، أعظم من حاجة المسافر إلى بلد من يدله على الطريق الموصل إليها.
وكذلك السداد، وهو إصابة القصد قولا وعملا، فمثله مثل رامى السهم، إذا وقع سهمه في نفس الشيء الذي رماه، فقد سدد سهمه وأصاب ولم يقع باطلا، فهكذا المصيب للحق في قوله وعمله بمنزلة المصيب في رميه. وكثيرا ما يقرن في القرآن هذا وهذا. فمنه قوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197].
أمر الحاج بأن يتزودوا لسفرهم، ولا يسافروا بغير زاد، ثم نبههم على زاد سفر
الآخرة، وهو التقوى. فكما أنه لا يصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلغه إياه،
فكذلك المسافر إلى الله تعالى والدار الآخرة لا يصل إلا بزاد من التقوى، فجمع بين
الزادين، ومنه قوله تعالى: (يَا بَنِى آدَمَ قَدْ
أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ
التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: 26].
فجمع بين الزينتين: زينة البدن باللباس، وزينة القلب بالتقوى، زينة الظاهر
والباطن، وكمال الظاهر والباطن، ومنه قوله تعالى: (فَمنِ
اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يضِلُّ وَلا يَشْقَى) [طه: 123].
فنفي عنه الضلال، الذي هو عذاب القلب والروح، والشقاء الذي هو عذاب البدن والروح أيضا، فهو منعم القلب والبدن بالهدى والفلاح، ومنه قول امرأة العزيز عن يوسف عليه السلام لما أرته النسوة اللائمات لها في حبه: (فَذلِكُنَّ الذي لمُتُنَّنِى فِيه) [يوسف: 32] فأرتهن جماله الظاهر. ثم قالت: (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) [يوسف: 32].
فأخبرت عن جماله الباطن بعفته، فأخبرتهن بجمال باطنه، وأرتهن جمال ظاهره. فنبه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقوله: "اللهُمَّ طَهِّرْنى مِنْ خطَايَاىَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ".
على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما، وتضمن دعاؤه سؤال هذا وهذا، والله تعالى أعلم. وقريب من هذا: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: كان إِذَا خَرَجَ مِنَ الخلاءِ قَالَ: "غُفْرَانَكَ".
وفي هذا من السر والله أعلم، أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، والذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه، فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، فحمد الله عند خروجه على خلاصه من هذا المؤذى لبدنه، وخفة البدن وراحته، وسأل أن يخلصه من المؤذى الآخر ويريح قلبه منه ويخففه.
وأسرار كلماته وأدعيته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فوق ما يخطر بالبال.
فصل فيما في الشرك والزنا واللواطة من الخبث وقد وسم الله سبحانه الشرك والزنا واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه دون سائر الذنوب وإن كانت مشتملة على ذلك، لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة: 28] وقوله تعالى في حق اللوطية: (وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتِى كانَتْ تَعْمَلُ الخبَائِثَ إِنّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِين) [الأنبياء: 74]، وقالت اللوطية: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النمل: 56]. فأقروا مع شركهم وكفرهم أنهم هم الأخابث الأنجاس، وأن لوطا وآله مطهرون من ذلك باجتنابهم له، وقال تعالى في حق الزناة: (الخبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالَخبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ) [النور: 26].
فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة، فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. والمخففة: الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، والحلف به وخوفه ورجائه. ونجاسة الشرك عينية.
ولهذا جعل سبحانه الشرك نجسا، بفتح الجيم، ولم يقل: إنما المشركون نجس، بالكسر، فإن النجس عين النجاسة، والنجس، بالكسر، هو المتنجس. فالثوب إذا أصابه بول أو خمر نجس. والبول والخمر نجس. فأنجس النجاسة الشرك، كما أنه أظلم الظلم.
فإن النجَس في اللغة والشرع هو المستقذر الذي يطلب مباعدته والبعد منه، بحيث لا يلمس ولا يشم ولا يرى، فضلا أن يخالط ويلابس لقذارته، ونفرة الطباع السليمة عنه. وكلما كان الحى أكمل حياة وأصح حياء كان إبعاده لذلك أعظم ونفرته منه أقوى.
فالأعيان النجسة إما أن تؤذى البدن أو القلب، أو تؤذيهما معا. والنجَس قد يؤذى برائحته، وقد يؤذى بملابسته، وإن لم تكن له رائحة كريهة.
والمقصود: أن النجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة، وتارة تكون معنوية باطنة فيغلب على الروح والقلب الخبث والنجاسة، حتى إن صاحب القلب الحى ليشم من تلك الروح والقلب رائحة خبيثة يتأذى بها، كما يتأذى من يشم رائحة النَّتْن، ويظهر ذلك كثيرا في عرقه، حتى ليوجد لرائحة عرقه نتنا. فإن نَتْن القلب والروح يتصل بباطن البدن أكثر من ظاهره. والعرق يفيض من الباطن، ولهذا كان الرجل الصالح طيب العرق.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الناس عرقا. قالت أم سليم، وقد سألها رسول الله عليه الصلاة والسلام عنه وهى تلتقطه "هو من أطيب الطيب" فالنفس النجسة الخبيثة يقوى خبثها ونجاستها حتى يبدو على الجسد. والنفس الطيبة بضدها، فإذا تجردت وخرجت من البدن وجد لهذه كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض، ولتلك كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض.
والمقصود: أن الشرك لما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، كان أبغض الأشياء إلى الله تعالى وأكرهها له، وأشدها مقتا لديه.
ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حرمه، وحرم ذبائحهم ومناكحتهم، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يتخذوهم عبيدا، وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، كما قال تعالى: (وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْء عَلَيْهِمْ دَائرَة السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهمْ وَأعَد لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [الفتح: 6].
فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك، فإنهم ظنوا به ظن السوء، حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحّدوه حق توحيده، ولهذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلا وندا، يحبه، ويخافه، ويرجوه، ويذل له، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته؟ قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يَحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة: 165].