الخطبة الأولى
الحمد لله وحده نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ولا شيء قبله ولا بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وخلقه وأمره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، نبي شرح الله صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين امنوا به وقاموا بنصرته، وجاهدوا معه في الله حق جهاده رضي الله عنهم وأرضاهم، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، وتدبروا القرآن العظيم، فإن تدبر القرآن هو العلم الذي يتبعه العمل به، الله جل وعلا أمر بتدبر القرآن وحث على ذلك، لما في ذلك من الفائدة العظيمة للمسلم، فالمتدبر للقرآن يجد العجب العجاب في علومه وأساليبه ومن ذلك:
ما جاء في القرآن من ذكر الجنة والنار، والوعد والوعيد، فلا تكاد تذكر آيات في الجنة إلا وتذكر قبلها أو بعدها آيات في النار، من أجل أن المسلم يكون بين الخوف الرجاء، الخوف من النار ورجاء الجنة، فلا يكون خائفا فقط ولا يكون راجيا فقط وإنما يكون بين الخوف والرجاء، فالخوف يحمله على العمل الصالح، وتقوى الله سبحانه، والرجاء يحمله على حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فهذه طريقة أهل الإيمان، بل هي طريقة الرسل: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)، (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) هذه طريقة الرسل وأتباعهم، أما من عبد الله بالخوف فقط فهذا من القانطين من رحمة الله، والله جل وعلا: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ)، (إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)، ولا يعبدونه بالرجاء فقط فتلك طريقة المرجئة الضلال، فالله جل وعلا يعبد بالخوف ويعبد بالرجاء، خوفا ورجاءا، خوفا من ناره، ورجاءا لجنته، فإذا رجاء فإنه لا ييئس من رحمة الله ولا يقنط من رحمة الله؛ بل يكون راجيا لربه محسنا للظن بالله سبحانه وتعالى، وهناك طائفة لا تعتبر الخوف والرجاء أبدا وإنما يقولون نعبد الله لأننا نحبه ولا نعبده خوفا من ناره ولا طمعا في جنته وهؤلاء هم الصوفية الضلال.
فعلى المسلم أن يتجنب هذه الطرائق وأن يأخذ طريق أهل الحق والصواب الذين يخافون ربهم ويرجونهم وينتفعون بآيات الوعد وبآيات الوعيد فيكونون على الاستقامة في حياتهم من غير انحراف إلى مذهب الخوارج أو انحراف إلى مذهب المرجئة أو انحراف إلى مذهب الصوفية؛ بل يكون المسلم على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل على طريقة كل الرسل وأتباعهم، هناك من أمن عذاب الله فقوم عاد لما وعظهم نبيهم هود عليه السلام، قالوا له: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ* إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ* وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) نسأل الله العافية، ولما راءوا الريح العاتية المقبلة عليهم لتهلكم: (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ* تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)، فهنا من المعاصرين من يسخر من الوعظ والتذكير ويقول أنتم تشددون على الناس، أنتم تسدون في وجوه الناس باب الأمل افتحوا لهم باب الأمل أدخلوا عليهم الفرح والسرور وهذه طريقة الضالين من قوم عاد وغيرهم.
فعلينا أن نحذر من هذه الأساليب الماكره وأن تأخذ طريق الحق، نرجوا رحمة ربنا فنعمل، ما يكفي الرجاء دون عمل نرجوا رحمة ربنا فنعمل لها، ونخاف من عذاب ربنا فنترك المعاصي والذنوب والسيئات، هذه طريقة الحق والصراط المستقيم، تدبروا القرآن ما تجدون ذكرا للجنة ونعيمها إلا وتجدون قبله أو بعده ذكرا للنار وعذابها وسمومها وحرها من أجل أن تعملوا للجنة وأن تخافوا من النار فتجتنبوا ما يوصل إليها لا يكفي الخوف من النار؛ بل لابد مع الخوف أن تعمل الأسباب التي تبعدك من النار ومن أعمالها هذه حكمة الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين، ومعلوم أن الجنة محفوفة بالمكاره مكاره النفس، الجنة لا تدخل بالأماني إنما تدخل برحمة الله وبأسباب الأعمال الصالحة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، فالجنة لا تدرك بالأماني أو يقول الإنسان أنا مسلم أنا مؤمن هذه دعوة لابد لها من حقيقة ما هو إسلامك؟ وما هو إيمانك؟ ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال كما قال الحسن البصري رحمه الله، هذه هو الإيمان.
فعلى المسلم أن لا يغتر بهذه الأساليب الخادعة وينسى الوعيد، الجنة محفوفة بالمكاره تحتاج إلى قيام ليل، إلى صيام نهار، تحتاج إلى الجهاد في سبيل الله، تحتاج إلى مشاق الطاعة، وهي شاقة على النفوس فلابد أن يحمل الإنسان نفسه على المكاره التي هي في رضا الله سبحانه وتعالى حتى يصل إلى الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى، وكذلك النار محفوفة بالشهوات التي تميل إليها كثير من النفوس الشهوات المحرمة، شهوات اللهو واللعب، شهوات الزنا والسرقة وشرب الخمور وأكل الربا وغير ذلك، الجنة ارتفاع تحتاج إلى ارتفاع وصعود وهذا يشق على النفوس، النار انحدار وسفول وهذا سهل على النفوس، الانحدار أسهل من الصعود، فعلينا أن نتذكر هذا وأن نصبر على طاعة الله سبحانه وتعالى ومشاقها رجاء ثواب الله سبحانه وتعالى، وأن نترك ما حرم الله من الذنوب والمعاصي خوفا من الله سبحانه وتعالى.
فعلى المسلم أن يلزم هذا الطريق الذي هو طريق النبيين والمرسلين والصالحين وحسن أولئك رفيقا، بارك الله ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا. أما بعد:
أيها الناس، كما تشاهدون اليوم ما يحيط بالمسلمين من الأخطار، ومن تهديد الأعداء، ومن اجتياح الديار، وإخراج أهلها منها، وتشريدهم من بيوتهم كما تشاهدون هذا تسمعونه صباحا ومساءا فماذا أفادنا هذا؟ هل رجعنا إلى الله؟ هل تبنا إلى الله؟ هل أخذنا بأنفسنا وأولادنا وإخواننا ومن حولنا إلى طاعة الله؟ تأمرنا بالمعروف وتنهينا عن المنكر؟ هل فعلنا أسباب النجاة التي تقي من هذه الشرور المحيطة بنا أم أننا مجرد نسمع الأخبار ولا نعتبر ولا نتعظ ونحن مقيمون في سلوتنا وغفلتنا؟ معرضون عما يحيط بنا؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)، إنما أتى على جيراننا ليس بعيدا عنا ونحن قد فعلنا الأسباب التي تجذبه إلينا من معصية الله ومن تضيع أمر الله، ومن الغفلة الإعراض، لم نأخذ بأسباب السلامة إلا من شاء الله.
فاتقوا الله عباد الله، اعتبروا بما يجري، اعتبروا يا أولي الأبصار، كما قال الله جل وعلا: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ) يعني: اليهود لما عصوا الله وعصوا رسوله: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) هذا ليس خاصا باليهود؛ بل هو كل من كان على شاكلتهم ممن عصى الله ورسوله ولم يأتمر بأوامر الله ورسوله وتباع هواه: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً).
ثم اعلموا رحمكم الله أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبيَّنا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمةِ المهديين، أبي بكرَ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد أمنا مستقرا وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللَّهُمَّ أحفظ علينا أمننا وإيماننا واستقرارنا في أوطاننا وأصلح سلطاننا وولي علينا خيارنا وكفنا شر شرارنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللَّهُمَّ من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه وصرف عنا كيده وكفنا شره، اللَّهُمَّ اجعل ما صنعه الكفار من الأسلحة التي غرتهم وقوتهم على المسلمين، اللَّهُمَّ ردها في نحورهم، اللَّهُمَّ ردها في صدورهم، اللَّهُمَّ اجعلها وباءا عليهم وكف المسلمين شرهم إنك على كل شيء قدير، اللَّهُمَّ كفنا عنا بأس الذين كفروا فأنت أشد بأسا وأشد تنكيلا، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا الله يذكركم، واشكُروه على نعمه يزِدْكم، ولذِكْرُ الله أكبرَ، والله يعلمُ ما تصنعون.
خطبة الجمعة 14-04-1435هـ