الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، جعل الصلاة كتابا موقوتا على المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثير. أما بعد:
أيها الناس، تعلمون وفقكم الله أن الصلاة هي عمود الإسلام، وأنها هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وأن من حافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فقد ضيع دينه قال تعالى: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)، الصلاة هي أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة من عمله، فإن قبلت قبل سائر عمله، وإن ردت رد سائر عمله قال الله سبحانه وتعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)، قال سبحانه: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، الصلاة لا تسقط على المسلم ما دام عقله باقيا قال صلى الله عليه وسلم: يصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب وفي رواية: فإن لم يستطع فمستلقيا ورجلاه إلى القبلة ، لا تسقط الصلاة في شدة الخوف قال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ* فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)، (فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) يعني: صلوها ماشين أو راكبين إذا كنتم فارين من العدو إلى أي جهة توجهتم مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها في حال الفرار من العدو: (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)، وقال سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ) هذا في شدة الخوف والعدو حاضر يرقبهم ليهجم عليهم، قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً)، فالصلاة لا تسقط لا عن المريض، ولا تسقط عن الخائف، ولا تسقط عن المسافر قال جل وعلا: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ)، وكان صلى الله عليه وسلم يصليها في أسفاره يقصر الرباعية مما يدل على أهمية الصلاة، بل إذا تطلب الأمر أن يجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما لسفر أو لمرض فإنه رخص الله له في ذلك لأن يجمع الصلاتين في وقت إحداهما تقديماً أو تأخيراً في وقت إحداهما رفقا به وحفاظاً ومحافظة على الصلاة، فالصلاة لا تسقط بحال من الأحول، من تركها متعمداً خارج من الإسلام وأرتد إلى الكفر إذا تركها متعمداً فإنه يرتد عن دينه بإجماع المسلمين يُستتاب فإن تاب وحافظ على الصلاة وإلا فإنه يقتل مُرتداً، وأما إذا تركها متكاسلاً مع اعترافه بوجوبها فإنه يلزم بها ويؤدب على تركها حتى يصلي؛ بل إن المحققين من العلماء حكموا بكفره كالذي جحد وجوبها لا فرق بينهما مما يدل على أهمية الصلاة، وماذا يبقى بعد الصلاة إذا ضيعت؟ قال صلى الله عليه وسلم: أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمَانَةُ وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ منه الصَّلاَةُ ، فهي إذا فقدت لم يبقى من الدين شيء كما في هذا الحديث، أوصى بها صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وهو يعالج سكرات الموت وهو يقول: عباد الله، الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وما زال يكررها حتى ثقل بها لسانه عليه الصلاة والسلام، هذه هي الصلاة التي يتهاون بها كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام ويقولون: الإسلام ليس بالصلاة، الإسلام في القلب لو كان في القلب إسلام ما تركت الصلاة، الإسلام في القلب، الإسلام باللسان، الإسلام بالعمل أيضا، يظهر على المسلم جميع أحواله، أما من يقول: الإسلام والإيمان في القلب ثم يترك الصلاة فهذا ليس في قلبه إيمانٌ ولا إسلام، لأنه لو كان في قلبه إيمان وإسلام لم يترك الصلاة.
فاتقوا الله، عباد الله، حافظوا على صلواتكم، أدوها كما أمركم الله في أوقاتها، ومع جماعة المسلمين، فإن الكفار يوم القيامة إذا سُئلوا (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) يعني: ما هو السبب الذي أدخلكم النار؟ (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) هذا أول جواب، (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ* فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ).
بارك الله ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا.
قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ نَسِىَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَيُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا أو استيقظ لاَ كَفَّارَةَ لَهَا إِلاَّ ذَلِكَ ، فالصلاة لا يسقطها النسيان، لا يسقطها النوم؛ بل يجب على المسلم أن يؤديها ولا يتركها ويقول: أن معذور في النوم أو في النسيان، كان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وكانوا يسيرون في الليل فلما أقبل الصباح آخر الليل نزلوا ليرتاحوا، وأمر صلى الله عليه وسلم بلالا رضي الله عنه أن يُقضهم لصلاة الفجر ولكنهم أخذهم النوم ومعهم بلال رضي الله عنه أخذه النوم بسبب السهر فما أيقضهم إلا حر الشمس فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أين أنت يا بلال؟ قال يا رسول الله: أخذ بي الذي أخذ بك، يعني: النوم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحلوا من مكانهم هذا إلى مكان آخر قريب ثم توضئوا ثم صلوا راتبة الفجر ثم أمر بلالا فأقام فصلى بهم الفجر عليه الصلاة والسلام في وقت الضحى، فلا مجال لترك الصلاة ولا عذر للمسلم في تركها مهما كان إنها فرض حتم على كل مسلم من ضيعها فقد ضيع دينه ومن حافظ عليها فقد حفظ دينه كما قال جل وعلا: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)، لقد كان الصحابة رضي الله عنهم من شدة حرصهم على الصلاة وحضور الصلاة كما يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، وإن الرجل ليؤتى به يهادى بين الرجلين يعني: إذا كان مريضا أو كبير السن يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف، فهم لا يتركون الصلاة لعذر لا لمرض ولا لغيره، وإنما كل يصلي على حسب حاله من المعذورين، فالصلاة لا تسقط بحال من الأحوال؛ ولكن المسلم يؤديها على حسب استطاعته قال جل وعلا: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) هذه هي الصلاة.
وهي عنوان الإسلام فالذي لا يصلي ليس بمسلم لأنه لو كان مسلماً لظهر عليه عنوان الإسلام، وهو المحافظة على الصلاة والاهتمام بها، أوصى صلى الله عليه وسلم أن يُؤمر الصبيان إذا بلغوا سن السابعة أن يُؤمروا بها قال صلى الله عليه وسلم: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ لسَبْعِ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لعَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ ، فكيف بالذين يضيعون أولادهم وهم على فرشهم وفي بيوتهم يتركونهم.
يا عباد الله، احذروا من السهر فإن السهر هو الذي يسبب إضاعة الصلاة والتثاقل عن الصلاة، ناموا من أول الليل لتقوموا آخر الليل، فأنتم بحاجة إلى النوم فلا تجعلوا نومكم في وقت صلاتكم: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً).
فاتقوا الله، عباد الله في صلاتكم، حافظوا عليها، مروا بها أولادكم ومن في بيوتكم: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
فاتقوا الله، عباد الله، اعلموا رحمكم الله أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبيَّنا محمد، وعلى أهله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد أمنا مستقرا وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللَّهُمَّ أحفظ هذا البلد آمننا مستقرا، اللَّهُمَّ أدفع عنا وعن المسلمين كل سوء ومكروه، اللَّهُمَّ كفنا عنا بأس الذين كفروا فأنت أشد بأسا وأشد تنكيلا، إن الكفار لم يسلطوا على المسلمين إلا بسبب إهمالهم لدينهم وبسبب تكاسلهم عما أمرهم الله به وتضيعهم لما أمر الله به، فإذا أراد المسلمون أن يحفظهم الله وأن يحمي دولتهم وبلادهم فليتمسكوا بدينهم فإنهم لا عز لهم ولا مانع لهم من الهلاك ولا مانع لهم من العدو إلا بالتمسك بهذا الدين ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، اللَّهُمَّ أنصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللَّهُمَّ دمر أعداء الدين في كل مكان، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا، اللَّهُمَّ أجمع كلمتهم على الحق، اللَّهُمَّ أهدهم سبل الرشاد، اللَّهُمَّ وفقهم لما فيه صلاحهم وصلاح الإسلام والمسلمين، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، فاذكروا الله يذكركم، واشكُروه على نعمه يزِدْكم، ولذِكْرُ الله أكبرَ، والله يعلمُ ما تصنعون.
خطبة الجمعة 27-05-1435هـ