بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: قل للناس جميعا (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ).
فقد بينه الله سبحانه وتعالى بين الحق وبين الباطل، وبين الهدى وبين الضلال، ولم يبقى الأمر خفيفا أمام الناس، هم يشاهدونه عيانا، (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) هذا الأمر أمر تهديد وليس أمر تخير كما يقوله أهل الضلال الذين يقولون هذه الآية تدل على حرية الاعتقاد وأن كلا يتقد ما يشاء، وهذا قول باطل وإلحاد، إلحاد في آيات الله سبحانه وتعالى، فليس الأمر أمر تخير بين الإيمان والكفر وإنما هو أمر تهديد ولهذا قال بعدها مبينا جزاء أهل الكفر وجزاء أهل الإيمان فقال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ) الذي اختاروا الكفر (نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) لا يستطيعون الخروج منها محصنة وعليها خزنة من الملائكة الغلاظ الشداد، فلا يستطيعون الخروج منها، (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) من كل جانب (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ* فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)، - والعياذ بالله ـ.
(وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) يعني: يصبهم العطش الشديد فيستغيثون يطلبون الغوث والماء، لكن كيف يسقون؟ (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ) أي: كالفضة الذائبة ـ والعياذ بالله ـ، (كَالْمُهْلِ) حار (يَشْوِي الْوُجُوهَ) إذا أقبل على وجهه سقطت جلدة وجهه ـ والعياذ بالله ـ من شدة حرة.
ثم قال جل وعلا: (بِئْسَ الشَّرَابُ) هذا الشراب الذي يشوي الوجوه (كَالْمُهْلِ) هذا (بِئْسَ الشَّرَابُ)، هذا ذم له، وساءت النار مرتفقا، ساءت محل إقامة واستقرار ـ والعياذ بالله ـ، لا يستريحون فيها ولا يقرون فيها من شدة العذاب والحر.
ثم قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هذا جزاء المؤمنين، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) فيحفظ الله لهم أعمالهم ويجزيهم بها: (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)، والعمل لا يكون حسناً إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون خالصا لوجه الله ليس فيه شرك.
الشرط الثاني: أن يكون صوابا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه بدعة، فلابد أن يكون العمل خالصا لله وصوابا على سنة رسول الله بهذا يكون العمل حسنناً (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً* أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) (عَدْنٍ) يعني: إقامة يقومون فيها يتلذذون فيها ولا يخرجون منها، لا يخرجون من الجنة أبداً ولا أحد يخرجهم مثل ما هو في الدنيا (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً* أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) جنات ليست جنة واحدة، (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) يتحلون بالذهب هذا في الآخرة أما في الدنيا فلا يجوز للرجل أن يلبس الذهب كما قال صلى الله عليه وسلم في آنية الذهب: هِي لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ) في الآخرة يباح لهم الذهب في الجنة: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُسٍ) يعني: من الحرير، والحرير لا يباح للرجال في الدنيا إنما يباح في الآخرة: (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) وهو ألذ الملابس وأحسن الملابس وأرق الملابس (ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُسٍ) يعني: خالص الحرير، (وَإِسْتَبْرَقٍ) أيضا نوع آخر من الحرير أنواع من الحرير (ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ) على الكراسي التي ليست مثل كراسي الدنيا كنبات الدنيا، أيضا هي كراسي من كراسي الجنة (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ) يتقابلون (عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) يتآنسون فيما بينهم وليس في قلوبهم غل ولا حقد؛ بل هم إخوان (عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).
فالله سبحانه وتعالى أعد لهم هذا الجزاء (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ) فيما بينهم، هذا جزاءهم عند الله سبحانه وتعالى.
(نِعْمَ الثَّوَابُ) نعم الجنَّة (الثَّوَابُ) هذا مدح لها، (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) انظر هذا في مقابل قوله في النار (بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً)، فهنا يقول (نِعْمَ الثَّوَابُ) في الجنَّة (نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) انظر الفرق بين هذا وهذا، والسبب أن هؤلاء كفروا ـ والعياذ بالله ـ وهؤلاء آمنوا بالله هذا هو الفرق بينهما، والإنسان إنما يجزئ بعمله من خير أو شر.
وفي الآية دليل على أن الإنسان له اختيار وله مشيئة ليس مجبراً وإنما له مشيئة (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، له مشيئة فهو الذي يكفر بمشيئته وهو الذي يؤمن بمشيئته واختياره.
فالله سبحانه وتعالى بين في هذه الآية جزاء الفريقين، وبين السبب في تفاوتهم هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنّة، السبب أن هؤلاء آمنوا وعملوا الصالحات في الدنيا لأن الدنيا هي دار الإيمان ودار العمل، وهؤلاء كفروا بالله عز وجل عن طواعية واختيار وإرادة منهم بعدما بين الله لهم الحق؛ ولكنهم لا يريدونه يريدون الباطل، ويريدون اتباع الهوى ـ والعياذ بالله -، فألا بهم إلى النار، وأولئك آمنوا بالله وعملوا الأعمال الصالحة فصار مآلهم إلى الجنَّة، فالعبد هو الذي يختار لنفسه الجنة أو النار بعمله، إن أراد الجنة فليعمل لها عمل: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً)، كل يحب الجنة وكل يريدها؛ لكن وين العمل؟
إذا أحببت الجنة وأردتها فعمل لها، ولا تدرك الجنة بالأماني إنما تدرك بالعمل الصالح برحمة الله سبحانه وتعالى، وأما النارـ والعياذ بالله ـ فإنها طريق أهل الضلال ومآل أهل الكفر الذين ضيعوا حياتهم في هذه الدنيا وتبعوا أهواءهم وضيعوا أوقاتهم فصار مصيرهم الخسارة والبوار ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
***