بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الله سبحانه: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) لما ذكر سبحانه وتعالى المثل للدنيا خرابها بعد تزينها، وعدمها بعد وجودها في قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وهذا وضح في الدنيا، هذا المثل ينطبق على الدنيا تماماً، فالدنيا تتزين بالمال والأولاد والجاه والشهوات، ثم لا تلبث أن تنقضي وأن ينزل بها الفناء والدمار مثل المطر الذي ينزل من السماء على الأرض فتنبت أنواع الزهور وأنواع النباتات فتزهوا بورودها وزهورها ومناظرها وروائحها وطعوامها، ثم ما تلبث هذه النباتات والزروع أن تصفر، ثم تيبس، ثم تتحطم، ثم تحملها الرياح يميناً وشمالاُ: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ) يعني: كأن لم تقم في الأمس زالت بعد إقامتها، وخربت بعد عمارتها هكذا الدنيا وهذا شيء مشاهد؛ ولكنه لا يشاهده إلا الذين يتفكرون في عقولهم ويتعظون، أما ما لا يتفكرون فإنهم لا ينتفعون بالآيات والأمثال لا يزالون غافلين في لهوهم.
ثم قال جل وعلا: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ) يطلب منكم أن تعملوا للجنة، (دَارِ السَّلامِ) هي: الجنة، يطلب منكم أن تعملوا لها الأعمال الصالحة حتى تدخلوها برحمة الله سبحانه وتعالى، الجنة لا تدخل إلا بعمل صالح: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، لا تحصل الجنة بالأماني دون عمل، العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، هذا لا ينفعه شيئاً.
(وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ) يطلبكم أن تعملوا للجنة، وهذا من رحمته بكم سبحانه أنه يحب لكم الخير ويحذركم من الدنيا وغرورها ويدعوكم إلى الجنة الباقية التي لا تزول ولا تفنى خلاف الدنيا فإنها تزول وتفنى، أما الجنة فإنها تبقى ولذلك سميت: (دَارِ السَّلامِ) أي: السلامة من كل آفة، فهي سالمة من كل آفة وأهلها سالمون من كل آفة.
وكذلك (دَارِ السَّلامِ) دار الله لأن السلام من أسماء الله جلَّ وعلا، فالجنة داره التي يدخلها من يشاء من عباده بأعمالهم الصالحة، وفي هذا الشهر الله يدعوا أكثر: تفتح فيه أبواب الجنان تغلق فيه أبواب النيران ويصفد الشيطان وينادي منادٍ كل ليلة من ليالي رمضان فيقول: يا باغي الخير أقبل ، تعال الأبواب أمامك مفتوحة والجنة تنتظرك التقصير منك، التقصير والتباطؤ، إنما يحصل من العباد وإلا فالأسباب مهيأة وهم ممكنون من العمل لهذه الجنة، لكنهم يفرطون ويضيعون الوقت ولا ينتبهون لهذا النداء الذي يناديهم: يا باغي الخير أقبل هذا مهيأ كل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، فأين من يستجيب لهذا النداء؟
ولهذا قال: (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فالله دعاء الناس عامة إلى (دَارِ السَّلامِ) دعاهم عامة، ولكنه يخص بهدايته من يشاء ممن يقبل الحق ويريد الخير، فإن الله يوفقه له، وأما من لم يتنبه لهذا وأعرض عنه ورغب في الدنيا فإن الله يتركه وما أراد لنفسه خذلان من الله له.
فالله جل وعلا إنما يهدي من يريد الخير ويرغب فيه ويجيب نداء الله سبحانه وتعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فالسبب من قبل العبد، والتوفيق من الله سبحانه وتعالى، والله يسر كلا لما خلق له كما قال صلى الله عليه وسلم: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) هو فعل السبب فوفقه الله جل وعلا لليسرى، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) بسبب أفعاله القبيحة وكفره وعناده فإنه ييسر للعسرى، ولا يستوي هذا وهذا لا يستوي من يعمل الصالحات ومن يعمل السيئات: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).