متن الدرس
الوجه السابع: أن اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته هو ولا بد، عكس ما أمله منه، فلا بد أن يخذل من الجهة التي قدر أن ينصر منها، ويذم من حيث قدر أن يحمد، وهذا أيضا كما أنه ثابت بالقرآن والسنة فهو معلوم بالاستقراء والتجارب، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزا كَلا سيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدا} [مريم: 81- 82] وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74- 75] أي: يغضبون لهم ويحاربون، كما يغضب الجند ويحارب عن أصحابه، وهم لا يستطيعون نصرهم، بل هم كَل عليهم. وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلِكنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتِى يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَىْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]. أى غير تخسير، وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إلهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213] وقال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} [الإسراء: 22]. فإن المشرك يرجو بشركه النصر تارة، والحمد والثناء تارة، فأخبر سبحانه أن مقصوده ينعكس عليه، ويحصل له الخذلان والذم.
والمقصود: أن هذين الوجهين في المخلوق وضدهما في الخالق سبحانه. فصلاح القلب وسعادته وفلاحه في عبادة الله تعالى والاستعانة به، وهلاكه وشقاؤه وضرره العاجل والآجل في عبادة المخلوق والاستعانة به.
***
الوجه الثامن: أن الله سبحانه غنى كريم، عزيز رحيم. فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعه إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحسانا. فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ليرزقوه قوة، ولا لينفعوه، ولا ليدفعوا عنه، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ منْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] وقال تعالى: {وَقُلِ الحمْدُ لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في اُلملْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِى مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111].
فهو سبحانه لا يوالى من يواليه من الذل، كما يوالى المخلوق المخلوق، وإنما يوالى أولياءه إحسانا ورحمة ومحبة لهم. وأما العباد فإنهم كما قال عز وجل:{وَاللهُ الْغَنِىُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38].
فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك وانتفاعه به عاجلاً أو آجلاً. ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه. فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه.
فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل، فهو محتاج إلى ذلك الجزاء، أو معاوضة بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره.
وهو أيضاً إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير. وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى في الآخرة، فهو أيضاً محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته، فهو غير ملوم في هذا القصد، فإنه فقير محتاج، وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته، فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه، وقال تعالى:{إِنْ أحْسَنْتُمْ أََحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] وقال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272]. وقال تعالى فيما رواه عنه رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يَا عِبَادِى: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِى، يا عِبَادِى: إِنّمَا هِىَ أَعْماَلكُم أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ".
فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد انتفاعه بك.
والرب تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه به، وذلك منفعة محضة لك خالصة من المضرة، بخلاف إرادة المخلوق نفعك، فإنه قد يكون فيه مضرة عليك، ولو بتحمل منته.
فتدبر هذا فإن ملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تعامله دون الله عز وجل، أو تطلب منه نفعا، أو دفعا أو تعلق قلبك به، فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك، وهذا حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض، وهو حال الولد مع والده، والزوج مع زوجه، والمملوك مع سيده، والشريك مع شريكه.
فالسعيد من عاملهم لله تعالى لا لهم، وأحسن إليهم لله تعالى، وخاف الله فيهم، ولم يخفهم مع الله، ورجا الله بالإحسان إليهم، ولم يرجهم مع الله، وأحبهم بِحُبِّ الله، ولم يحبهم مع الله تعالى، كما قال أولياء الله عز وجل: {إِنمَا نُطعمكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكورًا} [الإنسان: 9].
***
الوجه التاسع: أن العبد لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك حتى يقدره الله تعالى عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة.
فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه، وهو الذي بيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فتعلق القلب بغيره رجاء وخوفا وتوكلا وعبودية: ضرر محض، لا منفعة فيه، وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه وحده الذي قدرها ويسرها وأوصلها إليك.